فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}
{ثم} للتراخي الرتبي، لأن بعثة رسل كثيرين إلى أمم تَلقوهم بمثل ما تلقَّى به نوحًا قومه أعجب من شأن قوم نوح حيث تمالأت تلك الأمم على طريقة واحدة من الكفر.
وليست (ثم) لإفادة التراخي في الزمن للاستغناء عن ذلك بقوله: {من بعده}.
وقد أُبهم الرسل في هذه الآية.
ووقع في آيات أخرى التصريح بأنهم: هود وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب.
وقد يكون هنالك رسل آخرون كما قال تعالى: {ورسلًا لم نقصصهم عليك} [النساء: 164]، ويتعين أن يكون المقصود هنا من كانوا قبل موسى لقوله: {ثم بعثنا من بعدهم موسى} [يونس: 75].
وفي الآية إشارة إلى أن نوحًا أول الرسل.
والبينات: هي الحجج الواضحة الدلالة على الصدق.
والفاءُ للتعقيب، أي أظهروا لهم المعجزات بإثر إرسالهم.
والباء للملابسة، أي جاءوا قومهم مبلغين الرسالة ملابسين البينات.
وقد قوبل جمع الرسل بجمع {البينات} فكان صادقًا ببينات كثيرة موزعة على رسل كثيرين، فقد يكون لكل نبيء من الأنبياء آيات كثيرة، وقد يكون لبعض الأنبياء آية واحدة مثل آية صالح وهي الناقة.
والفاء في قوله: {فما كانوا ليؤمنوا} للتفريع، أي فترتب على ذلك أنهم لم يؤمنوا.
وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء.
حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه.
ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة.
ودل قوله: {بما كذبوا به من قبل} أن هنالك تكذيبًا بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبرِ مخبر فقوله: {فجاءهم بالبينات} مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.
وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة.
وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما من شأنه أن يقلعه كان تكذيبًا واحدًا منسيًا.
وهذا من بلاغة معاني القرآن.
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه: {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.
وقد جُعل الطبع الذي وقع على قلوب هؤلاء مثلًا لكيفيات الطبع على قلوب المعتدين فقوله: {كذلك نطبع على قلوب المعتدين}، أي مثل هذا الطبع العجيب نطبع على قلوب المعتدين فتأملوه واعتبروا به.
والطبع: الختم.
وهو استعارة لعدم دخول الإيمان قلوبهم.
وتقدم في قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} في سورة البقرة [7].
والاعتداء: افتعال من عدا عليه، إذا ظلمه، فالمعتدين مرادف الظالمين، والمراد به المشركون لأن الشرك اعتداء، فإنهم كذبوا الرسل فاعتدوا على الصادقين بلمزهم بالكذب وقد جاء في نظير هذه الآية من سورة [الأعراف: 101]: {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} فهذا التَّحالف للتفنّن في حكاية هذه العبرة في الموضعين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ}
وكلمة بعث هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجودًا ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى.
وكلمة: {بَعَثْنَا} هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج.
وحين يرسل الحق سبحانه رسولًا، فهو لا ينشيء منهجًا، بل يبعث ما كان موجودًا، ليذكِّر الفطرة السليمة.
وهذا هو الفرق بين أثر كلمة البعث عن كلمة الإرسال، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب.
ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم عليه السلام جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى.
وبعد نوح عليه السلام بعث الحق سبحانه رسلًا، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} [يونس: 74]. أي: من بعد نوح، فمسألة نوح عليه السلام هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي؛ لأن نوحًا عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعًا أيضًا، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يُبعث رسولًا عامًّا للناس جميعًا، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولًا لكل الناس؛ لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة.
والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين: مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين.
وهكذا صار نوح عليه السلام رسولًا عامًّا بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان.
وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74].
فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليه السلام؟ لا؛ لأنه سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].
وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم، مثلما قال سبحانه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147].
فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة؛ لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلًا منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع.
ونحن نعلم أن ذرية آدم عليه السلام كانت تعيش على الأرض، ثم انساحت في الأرض؛ لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض.
والحق سبحانه هو القائل: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100].
وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم عليه السلام إلى مواقع الغيث، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه؛ لأنها أصل الحياة.
ويلاحظ مؤرِّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار والوديان، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحاري، مثلهم مثل العرب، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض، خاف الناس من الفيضان؛ لأن العَدُوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء.
وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قَدْر حاجتهم؛ لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء.
وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية، مثلها كانت في بقية الأرض؛ ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيرًا، وهو سبحانه القائل: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
وقصَّ علينا الله سبحانه قصص بعضهم، ولم يقصص قصص البعض الآخر.
يقول الحق سبحانه: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [غافر: 78].
وهنا يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بالبينات} [يونس: 74].
فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله؟
لا؛ لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هودًا إلى قوم عاد، وصالحًا إلى ثمود، وشعيبًا إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوح عليه السلام بخبر موسى عليه السلام، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات.
وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلًا إلى قوم، فكل قوم كان لهم رسول، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه.
وكلمة قوم في الآية جمع مضاف، والرسل جمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، مثلما نقول: هَيَّا اركبوا سياراتكم، والخطاب لكم جميعًا، ويعني: أن يركب كل واحد منكم سيارته.
وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات، أي: بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} [يونس: 74].
أي: أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر، بل جاءت الغفلة، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين.
والطبع كما نعلم هو الختم.
ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يُخرج ما بداخله، ولا يُدخل إليه ما هو خارجه؛ فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألاّ يدخلها إيمان، ولا يخرج منها الكفر، والطبع هنا منسوب لله تعالى.
وبعض الذين يتلمَّسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون: إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم.
ونقول: التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع الى قلوب المعتدين، فالاعتداء قد وقع منهم أولًا، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض.
وجاء الطبع لتصميمهم على ماعشقوه وألفوه، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي:
«أنا أغنى الشركاء عن الشرك». ولله المثل الأعلى، فأنت تقول لمن يَسْدِر في غَيِّه: ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به. ومَثَل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، مثل الذين كذَّبوا من قبل وكانوا معتدين. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة؛ شرع في ذكر قصص الأنبياء، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {واتل عَلَيْهِمْ} أي: على الكفار المعاصرين لك، المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة: {نَبَأَ نُوحٍ} أي: خبره، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن، والمراد: ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به، كما فعله كفار قريش وأمثالهم: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي: وقت قال لقومه، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال، واللام في: {لِقَوْمِهِ} لام التبليغ: {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى} أي: عظم وثقل، والمقام بفتح الميم: الموضع الذي يقام فيه، وبالضم الإقامة.